الرحيلمميز

الشهيدة آمنة حميد: إرث أدبي وشعري لأجل فلسطين

السؤال الأول الذي يطرح هنا هو: لماذا قتلت إسرائيل آمنة حميد؟ تُضاف حميد إلى قائمة 140 من الصحافيين الفلسطينيين الذين استهدفهم الاحتلال، ممن يقولون كلمة الحق، وكلمة الحق التي قالتها آمنة فقتلت بسببها، عندما نشرت قبل استهدافها رحمها الله قائلة في صفحتها على فيس بوك: “لطالما كانت اختياراتي عبارة عن مزيج من التجارب المريرة والمذهلة. وعلى الرغم من أن المنعطفات محفوفة بالصعوبة وأن المصير معلق في الميزان، إلا أنني لم أكن أبدًا من أولئك الذين يترددون أو يطأطِئون رؤوسهم أو يتراجعون أو يتلعثمون ولن يوقفني شيء عن التمسك بقدسية الأسرار وحمل وتوصيل الرسالة التي أدركتها بعمق منذ نعومة أظفاري”.

آمنة حميد: أم لرضيعة وخمسة 5 أطفال

استشهاد الصحفية آمنة حميد بعد التحريض عليها من الإعلام العبري.jpg

آمنة محمود حسن حميد حميد، من مخيم الشاطئ تعود أصول عائلتها إلى أسدود المحتلة، تخرجت في الجامعة الإسلامية عام 2016، وأكملت دراسة الماجستير في جامعة الأقصى، عملت صحافية في مجلات وصحف عديدة، وعرفت بقلم أدبي عذب، وهي كذلك ناشطة اجتماعية تدافع عن حقوق المرأة والطفل وتعلي صوت المظلومين.

قتل الاحتلال آمنه وابنها مهدي، في 24 نيسان/ أبريل 2024 ، في غارة غاشمة نفذتها طائرات الاحتلال الإسرائيلي الحربية على منزل عائلتها في مخيم الشاطئ غربي مدينة غزة، وتركت طفلة رضيعة لم تكد تبلغ السبعة أشهر، ضحى، وعلي (10 أعوام)، ومحمد (9 أعوام)، وأمير (5 أعوام)، وغنى (4 أعوام)، بينما لم يتمكن زوجها الصحفي سائد حسونة من وداعها أو المشاركة في دفن ما تبقى من جسدها، ولا يستطيع بلوغ أولاده واحتضانهم والأوصال مقطوعة بين الشمال والجنوب.

ففي ديسمبر/كانون الأول 2023، داهم جنود إسرائيليون مبنى سكنيًا في مدينة غزة، حيث كانت العائلة، واختطفوه وعذبوه وجردوه من ملابسه، وأجبروا آمنة والأطفال على المغادرة. توجه الزوج إلى الجنوب ولم يتمكن من الاتصال بعائلته. يقول حسونة: “لا أستطيع التوقف عن التفكير بهم بعد استشهاد آمنة…لا أستطيع أن أذهب إلى الشمال ولا يمكنهم أن يأتوا إلى الجنوب، نحن متفرقون. ولم أتمكن حتى من حضور جنازة آمنة أو توديعها الأخير، ولا أستطيع النوم وأنا أفكر فيهم”.

معها استشهد الابن البكر والأقرب لأبيه وأمه، مهدي حسونة الطفل الصغير، يجيد كرة القدم، وهو حاصل على الحزام الأسود في “الكونغ فو”، تقول معلمته بأنه كان أروع شخصية في الصف. وتقول أخرى “مهدي كان من الطلاب المميزين الله يرحمه ويرحم والدته، وكان قبل يوم من استشهاده يخبر أحد معلماته عن أحد أًصدقائه وأنه فخور بثباته في شمال غزة.

يقول سائد في مقابلة تلفزيونية أجريت معه: “استهدفت زوجتي بشكل مباشر وقصفوا في مكان مدني لا يوجد فيه أي نشاط عسكري، وحركتها في البيت معروفة، وهو نفس المكان الذي كان يجلس فيه مدنيون، أصيب أبنائي الخمسة واستشهدت زوجتي وابني البكر مهدي. وهذا تحريض ممنهج على الصحافيين باعتبارهم أعداء الصهاينة، وظهرت آمنة في فيديو بثته القناة 14 العبرية للتحريض ضدها وضد آخرين ظهروا في مقطع مصور في مجمع الشفاء الطبي قبيل اقتحامه وحصاره الأخير في 9 آذار/ مارس 2024 من قبل جيش الاحتلال.

لحظة الاستشهاد: آمنة وأطفالها تحت الأنقاض

المكان الذي استشهدت به الصحفية آمنة حميد.jpg
المكان الذي استشهدت فيه الصحفية آمنة حميد وطفلها مهدي فيما أُصيب بقية الأبناء 

في مشهد مؤلم يشوش عليه غبار الردم وتهاوي الأنقاض، طفل يبكي بشدة، فلا يكاد يُفهم ما يقول، تذرف دموعه ويصيح وهو في حالة ذهول تام وصدمة شديدة، لا يُرى من وجهه تفاصيله، فبالكاد تستطيع تمييز وجهه المغبّر، يسأله الصحافي ماذا حصل؟ فيقول وهو يصيح: “أخويا مهدي وأمي لسا تحت الردم…  إخواتي الثلاثة وخالي متصاوبيين، بس أنا طلعت منيح، فش عندنا حدا، مش عارف فجأة نزل صاروخ”.

ويسأل شخص آخر من موقع القصف، عمّا حصل، فيجيب: “طبعاً هذا بيت ابن عمي من دار حميد إحنا جينا ع صوت القصف فجأة، بنت عمي موجودة تحت ومعها ولادها سبعة أنفار ومعها أخوها، أخوها طلع متصاوب، وولد صغير مستشهد وطلعنا ٣ إصابات لسا ضايل الأم موجودة تحت وتنين أطفال لسا بنبحث عليهم تحت الأنقاض لحتى الآن”.

ورجل الدفاع المدني يقول: “والله بنحاول لأنه في حرمة مفقودة بنحاول نسمع صوتها أو نلتمس في حدا حي أو مش حي. تم إيجاد جثة امرأة، جثة مقطعة ومتناثرة هذا ما نجم عن القصف الإسرائيلي بحق السيدة وأطفالها، أصابت الطائرات الحربية أطفالها والأن يتم انتشال جثاميين السيدة وطفلها المقطعة والمتناثرة والمتحولة إلى أشلاء، طواقم الدفاع المدني تبقى عاجزة أمام هذه الترسانة الإسرائيلية العسكرية. ويبقى كما هو حال كل قصف إسرائيلي ضحية هذا القصف وضحية هذه الحرب هم الأطفال والنساء”.وقبل حادثة استشهاد آمنة وابنها، كانت قد نجت الأسرة من القصف الإسرائيلي الذي استهدف الأماكن التي لجأت إليها مرتين، وفي المرَّة الثانية أصيبت آمنة وضحى بجراح.

الصحفي سائد حسونة: الزوج المُحِب والمكلوم

سائد حسونة وآمنة حميد قصة شراكة حياة وقضية حتى الشهادة.jpg

 

اعتدت الكتابة عن الزوجات المكلومات الثكالى اللواتي فقدن أبناءهن  أو أزواجهن، فأحاول الاقتراب من مشاعرهن لأحسن التعبير عنهن وتقمص ما يشعرن به عن قرب، أحاول بكل ما أوتيت، مع يقيني بأني لن أفعل تمامًا. كتابة اليوم مختلفة بالنسبة لي وبالنسبة لصاحب القصة وكل ما يجري من حولي وحوله، فصاحب القصة هو صاحب الفقد، زوج فقد رفيقة عمره، وكانت له في الحياة سواء، شريكان في البيت والحياة معًا بكل ما للكلمة من معنى؛ فالزوج ينقل القصص والحكايا وينشئ المنصات والمدونات لحفظ قصص أهل غزة، وتفعل هي كذلك بأدبها وشعرها ومهاراتها الصحفية.

دعونا أولًا نتعرف إلى سائد ثم إلى آمنة من خلال بعضهما، فهما مسار واحد يؤديان إلى ميناء مشترك مضيء، يحمل همّ الذاكرة وعبء التوثيق.الزوج سائد حسونه، مدرب واستشاري الإعلام الاجتماعي، مدون، مصمم جرافيك، معد حقائب تدريبية في الوسائط المتعددة والإعلام الاجتماعي ومنسق حملات إعلامية دولية، أنشأ منصة تلجرام: ماذا جرى؟ وهي منصة تجمع حكايا وشهادات بدأت منذ حرب 7 أكتوبر على غزة، وما يزال يسطر فيها كل ما مرّ به من أحداث شخصية وكل ما أمكنه تسجيله، تدوينه، كتابته، أو صناعته حول مجريات هذه الحرب.

في أحد منشوراته يكتب سائد في إصابة زوجتة سابقًا ورضيعته ضحى قبل استشهادها: “أصيبتا في هذه الحرب التي ألهبت نارها كل شيء، زوجتي الغالية “آمنة” وابنتي الرضيعة قرة عيني “ضحى”، إصابات متوسطة بعد قصف عنيف على مكان نزوحنا في شمال غزة، الأمر الذي تكرر عشرات المرات دون أدنى رحمة، أسأل الله أن يعافيهما ويحميهما”.

ويقول سائد في منشور آخر يصف فيه زوجته بفخر واعتزاز: “آمنة حميد كما تتحدث عن نفسها، خياراتي لم تكن يوماً إلا مُرةً ومدهشة، ولم تكن في يوم من الأيام هذه المنعطفات إلا صعبة ومصيرية، ولستُ ممن يفضلون الالتواء أو الانحناء أو الرجوع للوراء أو التراخي أو المواربة… لن يُثنيني شيء عن قداسة الأسرار والرسالة التي حملتها بوعي كبير في عمر مبكر”.وفي نعيها كتب سائد: “كُسر ظهري من بعدك يا آمنة.. عزاؤنا أنك عشتي صادقة طاهرة، والشهادة استحقاق المخلصين، وإنا لله وإنا إليه راجعون”.

الشهيدة آمنة حميد: نشاط أدبي وصحافي ومناصرة للحق

الأسير المحرر والصحفي سائد حسونة يرثي زوجته الشهيدة آمنة حميد.jpg

أنشأت آمنة برفقة سائد وعدد من الأدباء والصحافيين والصحافيات منصة حكايا غزة، وهي استكمال ووفاء لما بدأ به رفعت العرعير، حيث توثيق الشهادات والحكايات لكل شخص في غزة، لكل موقف ولكل قصة، كتبت آمنة هنا حكايا من غزة: “نافذة الذين تعرضوا لإبادةٍ جماعية على أيدي الاحتلال الصهيوني، هنا فضاؤنا الذي نحفظ فيه روايتنا من طي النسيان وذاكرة المكان من سلب الاحتلال وتقاريرنا التي وثقنا بها جرائمهم وأدبنا المقهور، والذي كتبناه بماء العيون.. إلى روح الملهم الشهيد الدكتور رفعت العرعير”.

وعندما رصدت ما كتبت آمنة بقلمها المرهف ولغتها الغنية الجميلة المنسابة، وجدتها كتبت عن كل تفاصيل معاش أهل غزة، من تعاقب الفصول، ومآسي الجوع والمرض ومجيء المناسبات وأشكال الإبادة، إذ كتبت عن مجزرة الشفاء قائلة: “هذه القبور صارت مسبحة المساء، وصارت الأرض وطناً جديداً لجثامين الشهداء. مائة يوم مرت على الحرب صار تكفين الجثامين أمراً طبيعياً من الممكن أن تشاهده بصورته الاعتيادية قرب موقد مشتعل لإعداد وجبة الغذاء الوحيدة أو ربما قد تجد أثناء السير في شوارع مدينة غزة شهداء بالعشرات جثثهم ملقاة على الأرض، وكانوا قد نزفوا كثيراً حتى ارتقوا.

وعن الجوع كتبت آمنة: لم يعد بوسعنا أن نجري كثيراً فتهالكت الأجسام من قلة الماء والطعام وي كأن سيف الإبادة الجماعية المشرع علينا منذ السابع من أكتوبر حوّل الاستمرار بالحياة إلى ألم مركب.

الوجوه شاحبة ومجعدة من نهش الجوع والسهر والجري من منطقة لأخرى مارس العدو فيها أبشع ظاهرة في الوجود ظاناً أنهم يستخدمون تكتيكا أو استراتيجية بنقل الناس تارة من الشرق إلى الغرب وتارة من الغرب إلى الشرق والجنوب للشمال والشمال للجنوب وهكذا حيث نزحنا في داخل المدينة الصغيرة التي لا يزيد عرضها عن 12 كيلو مترات أكثر من عشرين مرة بين جهاتها الأربعة في كل مرة نهرب تحت الأحزمة النارية وإطلاق النار من القناصة وطائرات الكواد كابتر في المفترقات العامة فنبدأ رغم التعب بتمهيد الأمر للصغار رغم انهم يجرون أقدامهم جرا (مفترق خطوات سريعة، اجروا ) باللهجة الفلسطينية.

ولم تنسَ آمنة الجراح وعمقها فكتبت:

بعد أيام من العمل على تعقيم جرح ضحى في رأسها؛ حيث إن قطر الإصابة قد تجاوز 10 سم بجوار النافوخ تماما ورأسها كان قد تضاعف حجمه بشكل كبير جدا، وتغير لونه للأزرق، زاد وجع كتفي اليسار، وقدمي اليسار فدققت النظر حيث وجدت الدم كان قد ملأ ملابسي، وقد أحدثت الشظايا ثقوبا كبيرة في الملابس، لكن لم أنتبه شيئا فشيئا بدأتُ باستخراج الشظايا واحدة تلو الأخرى بحمد الله، بالرغم من كوني ما تعافيتُ بعد من آلام المخاض، وبعد ساعات طويلة وسهر شديد مع قلق يتضاعف حجمه مع إصابة الرضيعة وعبء رعاية الأولاد في ظروف الحرب المجنونة التي لم تهدأ أبداً.

وعن شح الطعام في الحصار المقيت دونت:

ما زال في أذني القصة الوحيدة التي حفظتها بصوت جدتي (كل يوم خس وجزر!) على لسان الأرنب لأمه، لقد جعلنا جيش الاحتلال نعيش هذه التجربة بحذافيرها تماماً، ففي مدينة غزة منذ منتصف أكتوبر لم نجد في سوق الخضار خضاراً ولا في سوق اللحوم لحوماً، ولم نجد حتى في أحلام اليقظة والنوم نوعاً من أنواع الفاكهة سوى مؤخرا بعد مئة يوم من الحرب وبكميات قليلة وتسعيرة باهظة الثمن نجد بعض الحمضيات مثل البرتقال المقطوف تحت القصف، فلا شك في أن حديث الصغار محشواً بنكهة كل طعام هذه الأرض فمنذ يومين وجد أطفالي بائعاً على باب مركز الإيواء يبيع (الخبيزة*) فهللوا وجاؤوا مسرعين وأخيراً وجدنا خبيزة مع أنهم سابقاً لم يكن منهم إطلاقاً من يفضل طعام الجدات الذي انتقل إلينا عبر الأجيال العريقة والأكلات التراثية.

المصدر
موقع بنفسج على الانترنت
زر الذهاب إلى الأعلى