شهداء مجهولي الهوية وأطفال بمستقبل مجهول
آمنة حميد
ليس من الغريب أن تمر ساعات النهار تلو النهار، ويظل جثمان شهيد مجهول الهوية مسجى على الأرض أسفل شجرة، لم يكن هذا حال جثمان واحد، بل إنها حرب الإبادة الجماعية التي نعيشها منذ (7 أكتوبر)، تكرر هذا المشهد مراراً إلى أن وصلت بنا المخاوف إلى أن يخط بأقلام اللباد أسماء الأبناء على مناطق متفرقة من أجسادهم، حتى إن باغتنا القصف في أي لحظة لا يكونوا مصيرهم من مجهولي الهوية.
كانت هذه معضلتي الأساسية على مدار أكثر من مائة يوم حيث كانت تشغل هذه الفكرة بالي ليل نهار؛ لأن ابنتي (ضحى) التي ولدت في الخامس من أكتوبر يوم الخميس لم تأخذ حقها الطبيعي في أن تُسَجَّل في السجلات الرسمية بوزارة الداخلية بغزة، حتى أن هذه الحرب قصفت كل مقرات الوزارات والمسؤولين، وربما الإداريين الذين يعملون على تسجيل المواليد، وربما قد أخذت هذه الحرب أطفالهم ونساءهم وأهاليهم أيضا، فلم نعد تتفاجأ بخبر استشهاد أحد أو حتى مسح العائلات من السجل المدني بات أمرا يمر مرور الكرام حيث صارت الشهادة مطلبا حقيقيا أمام ما نواجه من موت حتمي على مدار الوقت.
بالعودة إلى ضحى، لقد طلبت من العزيزة ياسمين عمة أولادي أن تصنع لها قلادة بالخرز لنزين اسمها به، ففي ظاهر الأمر كانت تزيينا، لكن في باطنه مخاوفي المميتة على مدار الوقت بأن يخطفها القصف، ولا يعرف اسمها لعل مخاوفي تقل كلما تقادمت أيام الحرب أكثر.
فلقد تنامى شعوري بالخوف مع سردية البحث عن حليب الرضع في كل أسواق المدينة التي تنشأ أمام مراكز الإيواء، وتختفي كلما قل تعداد الناس في مراكز الإيواء، فأول أيام الحرب كان زوجي يقطع مسافة تتعدى أربع إلى خمس كيلو مترات على الأقدام، حتى يستطيع أن يجد حليبا لضحى، تزامناً مع ذلك وقعنا في فخ تغيير نوع الحليب حسب الانتشار، فكانت في كل مرة تشرب حليبا نضطر إلى تغيير نوعه بعد فترة وجيزة جدا على حسب وفرة هذا الحليب اليوم ومع انقضاء شهر يناير الجاري يقارب عمر ابنتي إلى الأربعة شهور، أي من عمر الحرب، ولم تزد كيلو غراما واحداً عن الثلاثة ونصف التي ولدت بها وكأن بقاءها على قيد الحياة أكبر إنجاز قد تحمله الصغيرة إن شاء الله لتفاخر به بين أقرانها في المستقبل.
حيث إن الماء المتوفر لا ينفع إطلاقا لاستحمامها ولا حتى لغسل ملابسها ولا حتى لصنع مصاصة الحليب، بل تعدى الأمر إلى أن ينتهي الحليب من المدينة تزامنا مع انتهاء الطحين والأرز، وكل المواد الغذائية الرئيسة في هذه المدينة المنكوبة، فلقد بدأنا بتقبل بعض الأطعمة التي لا تصلح للاستخدام الآدمي حتى نحافظ على الحياة! أمام الموت الملقى في كل زاوية وطريق وطعام ليس فقط بالقصف والقنص وقذائف الدبابات ذات الصفير المرتفع الذي يخطف القلوب والأبصار، بل إن أعلاف الحيوانات التي بدأنا نطحنها ونطعمها لصغارنا بأيدينا متخلين عن كل مقاييس الجودة الطبيعية، في محاولة لعلها الأخيرة في أن نحفظ صغارنا لمستقبل يبدو أنه ما يزال مجهولاً!