فرن أم جلال في مركز الإيواء بغزة
![مركز الايواء](https://amnahomaid.com/wp-content/uploads/2024/12/vfQd8-fit-636.jpg)
من الصعب للغاية أن يفصل إنسان عاش كارثة حرب (7 أكتوبر) بين ما عاشه في هذه الأيام وكيف كان شكل الحياة الطبيعية قبلها ويكأن أصدق ما قاله مجلس حرب الاحتلال أن الحياة في غزة بعد السابع من أكتوبر لن تشبه البتة ما كانت عليه قبل السادس من أكتوبر، فلقد بدأنا ننسى تماماً كيف كان طعم الخضار حقيقة أو حتى النكهة الأصلية لبعض الأطعمة لندرتها، فصار أقصى ما يتمنى طفل لم يتجاوز عمره السابعة السلطة الغزية التي تجمع البصل مع البندورة مع بعض حبات الجرادة الناشفة مع الزيت، ناسياً تماماً أنه لو تحقق هذا الحلم سيقع في فخ البحث عن خبز!
الخبز نعم… فمعضلة صناعة الخبز قد تأخذ أياماً ليس بالدقائق وليس بالثوان في ظل ما وصلت إليه التكنولوجيا الحديثة أو ربما الحياة العادية، فمنذ اليوم الأول للحرب شرعت اسرائيل بقصف المخابز الآلية والتقليدية بشكل منظم واستهداف مدروس يقصد منه الانتقام بالموت جوعاً وعطشاً ليس فقط بالنار والقصف، فصارت أدوات هذه الحرب أكثر شراسة وقسوة ما بين أن يعيش أطفالنا في غزة واقعاً مستمراً منذ اليوم الأول حتى هذه اللحظة على مدار أكثر من مائة يوم، حيث أخرج جيش الاحتلال المخابز عن الخدمة، كما المشافي تماماً لكنه حاربنا في الخبز أيضا، كما استهداف مستودعات المواد الغذائية الرئيسة والوحيدة ومقرات وزارة الشؤون الاجتماعية ومستودعات المتاجر الكبيرة وحتى مستودعات الطحين والأرز التي سمح بدخولها كمساعدات أمام المجتمع الدولي.
سابقا كان بإمكان ابني الأكبر (مهدي) أن يأتي بالخبز جاهزا وساخنا في غضون خمس دقائق فقط وربما في أقل من هذه الدقائق بإمكان أطفالي انهاء ربطة الخبز كما جرت تسميتها في غزة مع كأسا من الشاي الساخن او مع الزعتر الفلسطيني المعروف أو الدقة الفلسطينية*، فلم يكن عندي خبرة كافية في صنع الخبز في كل الأحوال ولم أكن أخصص وقتاً لذلك لكن الحرب أجبرتنا على البحث عن طحين لأيام طويلة نسي فيها الجميع طعم الخبز حرفياً.
ما أن بدأ الجميع بنبش المنازل التي استشهد أصحابها أو منازل الأقارب والأصدقاء الذين غادروا بحثا عن الأمن المزعوم في جنوبي قطاع غزة، للحصول على بعض كميات الطحين التي ارتفع سعرها إلى عشرة أضعاف سعرها الأصلي ما قبل الحرب ولم يكن بوسع أحد أن يصنعها على غاز الطهي أو في الفرن المنزلي حتى باتت صناعة الخبز الخامر على الحطب أمراً شبه مستحيلا.
بدأ الجميع بصناعة خبز رقيق يسمى في غزة بخبز الصاج حيث لا يسمن ولا يغني من جوع لكنه يمكن أن يكون حلاً أفضل من أن لا نجد خبزاً، ثم بدأ البعض يصنع أفرانا من مخلفات الحرب، فربما جزء مما يستخدم في صناعة الغسالات الأوتوماتيكية ينفع ليصير موقدا للنار ثم تطورت الفكرة ودعمها بمخلفات معدنية مما بقي من ركام المنازل حتى صار فرنا بطابقين ولم تكن لدي مهارة خبز العجين على موقد النار والتحطيب فلقد أخذ الأمر مني جهداً كبيراً في التأقلم مع كل تبعات الأمر، حتى رائحة النار العالقة في الملابس أو حتى آلام الجيوب الأنفية أو التعرض لنزلات البرد عقب انتهاء عملية الخبز وهكذا إلى أن لجأ الناس لمراكز الإيواء.
هنا تبدأ سردية جديدة محشوة بنكهة الجنة مع دماثة أخلاق الناس في الصعوبات وفي النصيحة التي تعادل ذهباً، حيث صار فرن أم جلال – الأشهر في مركز الإيواء -، قِبلتي لطهو الطعام وتعلم خبايا وأسرار صناعة الطعام والخبز! فلقد كان الطهو أسهل مع توفر الانترنت واليوتيوب وربما في الأكلات الشعبية الاتصال بوالدتي لتسعفني، لكن في مركز إيواء اللاجئين لمستشفى الشفاء صارت أم جلال أماً جديدة لعشرات بل مئات وربما آلاف النساء، حيث دأب زوجها لصناعة فرن من الطوب وبعض المعدن بفن صناعة اللازم فوق الممكن في وقت الاستثناء.
تطوعت أم جلال لتظل في ساحة مركز الإيواء* الخلفية لتجويد خبز النساء لساعات طويل منذ ساعات الصباح الأولى حتى الليل، فلقد أملت علي ببعض الأسرار ليصير الخبز طيباً وذو جودة عالية، وطورت وزوجها الفرن لطهو الأرز والعدس وسواهم من الأطعمة التي باستطاعة الناس أن تطهوها في ظل وجود خبرة كافية عن الطهو بالأزمات وأسرار إنقاذ الطعام من التلف في ظل عدم وفرة المكونات والتحايل على المتاح ليصير طعاماً مستصاغاً.
كنت أجهل تماماً طريقة العجين ولم يكن لدي خبرة كافية في صناعة الخبز لكن المحنة صنعت من أسرار ونصائح أم جلال أما حقيقية في أزمة ليس بوسع عقل بشري أن نمر في كارثة كهذه حتى أنها أعطتني في آخر مرة توفر فيها الطحين علامة فارقة في صناعة الخبز فقالت بصوت حانٍ وبضحكة يملأها الدفء (أعطيك 9/10), في صناعة الخبز اليوم، لكن معضلة كجمع الحطب بالسير أكثر من أربع إلى خمس كيلو مترات إضافية بحثاً عن الحطب بعد السير لمسافة طويلة لا تقل عنها للبحث عن الطحين.
مع انتهاء وجود المواد الأساسية في السوق صرت أجد أن وقت أم جلال فارغاً فلم يعد التكدس بمفارش العجين بجوارها ولم تعد الأحاديث بنفس النكهة التي كانت في السابق، فصوت الصغار في خلفية مشهد جلسة أم جلال وأبو جلال والنار خامدة وصوت الصغار يتضورون جوعاً حتى أنهم لم يعودوا لطلب الخبز منذ أيام لأنهم أدركوا تماماً أن الحطب والطحين لن يتوفرا من مطر السماء الشيء الوحيد الذي لم يستطع جيش الاحتلال منعه عنا ولن يستطيع!
- الدُقة الفلسطينية: هي قمح محمص مطحون مع الملح وبعض السماق الفلسطيني والسمسم، تتمتع بنكهة مالحة من حمض السماق يتم أكلها مع زيت الزيتون.
- مركز الإيواء: مدرسة أو مشفى أو وزارة أو جامعة وهي أماكن غير مخصصة لاستخدامها كمنازل لكن الخوف والفزع من جيش الاحتلال الإسرائيلي خصصها لتجمع الآلاف حتى لو في خيام صغيرة بداخلها، مع إمكانية استثمار كل مافيها من أدوات ومخلفات بعد القصف لتسهيل الحياة في ظل الحرب الاستثنائية.
إقرأ أيضا