الرحيل

“كان له بهجة”.. عن العيد لو لم تكن الإبادة في قطاع غزّة

أمام “بسطة الحرب” التي تتقدم خيمتها غرب مدينة غزة، تجلس الشابة أسماء البهتيني، لاستقبال الزبائن بدلًا من استقبال الزوار نهار العيد الذي انتزع ملامحه العدوان المستمر على غزة، وحرمها لهفة الانتظار وتجهيزات الاستقبال بعدما فقدت منزلها في شارع عمر المختار شمال القطاع، والذي انهارت معه بهجة المناسبات.

في ظل فقد ودمار وشهداء، يعيش أهالي قطاع غزة، أجواء عيد الفطر مرة أخرى في ظل العدوان الإسرائيلي المستمر

وحول العيد في الخيمة تقول البهتيني “شعور العيد في الخيمة غير.. بلا خصوصية، حياة مأساوية، والفرق كبير، البيت لوحده كان عيدًا، تنظيف وتزيين غرفة ضيوف، أما في الخيمة فلا عيد”.

لم تُفقد الإبادة البهتيني أجواء المنزل فحسب بل حرمتها فرصة الاجتماع بأخوالها المقيمين في جنوب المدينة، وذلك بحكم مستجدات الحرب، وتقطّع الطرق، وبُعد المسافات، وارتفاع تكلفة المواصلات، فيما خطفت الحرب العشرات من أفراد عائلتها على ذات غرة.

الشابة أسماء البهتيني أمام ما تصفه في “بسطة الحرب”

لا عيد في الخيمة

وأوضحت البهتيني أن الحرب أثرت على طبيعة حياتها، كما قضت على شعور الانتظار والتصوير والنزهات في مدن الملاهي والمنتجعات الترفيهية، عدا عن حرمانها من حلوى “البيتي فور” الذي كانت تفضل تناوله طيلة أيام العيد، مضيفةً “هذا العيد بلا طعم؛ لأننا فقدنا البيت والأحباب وكثير من الأماكن المربوطة في ذاكرتنا بوقت العيد ورفيقات هذه المناسبة”.

كان للبهتيني ليلة العيد روتينًا خاصًا للعناية بالبشرة، في ذلك تقول: “كانت أهم العادات ليلة العيد هي الاهتمام بنفسي وبشرتي، حاليًا أنا لا استخدم شيئًا بحكم وجودي بالخيمة، والتي بالكاد نوفّر فيها قوت يومنا وسط أجواء لا تُدمّر النفسية فحسب، بل تؤذي البشرة بعمق وتغيّب إمكانية الاستفادة من أي مستحضر”.

وخلال حديثها عن آخر عيد عاشته قبل الإبادة، صفنت البهتيني، وهي تحاول استرجاع التفاصيل، فدمعت عينها وتحشرج صوتها لتكتفي بقولها “فقدنا كتير!”، لافتةً أنها تتوق إلى أداء صلاة العيد في المساجد التي دمر معظمها الاحتلال الإسرائيلي بالكامل.

“كنت أصنع الحلوى لإسعاد أطفالي، الآن أنا أوزعها رحمةً لهم”، بهذه الكلمات اختصرت آلاء حمادة حكاية العيد من قلب أم مكلومة في غزة فقدت ابنتها وابنها البكر لتنجو وطفلتها الأصغر التي تقاسمها الوجع تحت سقف منزلهم الآيل للسقوط في غرب المدينة.

كان لعيد آلاء طقوسًا مختلفة، تتسابق فيه وأبنائها في إعداد الحلوى، تتنافس معهم في صناعة أجمل كعكة، فيما يسارعون في مساعدتها في تقطيع العجوة والخبز على الفرن.

كما أشارت حمادة إلى محاولات أبنائها “صناعة زوايا العيد بأنفسهم عبر فروة بيضاء وبعض المشغولات التي يجهزونها بأيديهم، ثم يتجهزون لصبيحة يوم العيد بالأثواب الفلسطينية والعباءات البيضاء لإحياء الشعائر”.

وكانت ليلة العيد بمثابة فرصة للتنزه، تتجول فيها حمادة بسيارتهم الشخصية التي أحرقتها قوات الاحتلال، في أحياء غزة الأكثر حيوية، يراقبون ازدحام الأسواق بالناس والحلوى، ويتناولون المرطبات، كما تخصص حمادة رابع أيام العيد لمراقبة سعادة أبنائها على الشاطئ بعد تناولها وجبة الغذاء رفقتهم في مدينة الملاهي.

أطفال آلاء حمادة، تتوسطهم الطفلة الناجية الوحيدة من الأطفال

فرصة للمواساة

تصمت حمادة وتستذكر “شهامة” ابنها الأكبر الذي لم يتجاوز 12عامًا وهو يعطيها العيدية، قائلًا “مطلوب مني أعيدك!”، مضيفةً “العيد بات مناسبة للمواساة والذكرى بدلًا من التهنئة والزيارة”، فيما شددت أنها تحاول اصطناع البهجة من أجل ابنتها الناجية رغم الغصة التي تسكنها.

أما عن بيان أبو زعيتر، فقد كانت تأمل في عيدٍ مختلف عن سابقه الذي قضته بين أوجاعها وأنقاض بيتها في دير البلح جنوب القطاع، موضحةً أن البيت بات مصدرًا للأسى بعدما فقدت فيه 26 روحًا من أبناء أسرتها، فيما تشتت بقية أفراد عائلتها لأجل العلاج.

وتحن أبو زعيتر “للتعزيل ما قبل العيد، لآخر إفطار في رمضان، ولفعاليات الوالدة التي سافرت للعلاج في الخارج”، لافتةً أن للبيت ذكريات وأحباب خاصة في المناسبات.

وبينما تحاول أبو زعيتر تخطي صدمة الحرب، تجد نفسها في كل مرة غير قادرة على تجاوز ما يحصل، لافتةً إلى دور تجدد الحرب وتشديد الحصار في خنق خيارات الفرح ومحاولات الابتهاج.

وأضافت “كنت أحب زيارة الأماكن المفضلة بمدينة غزة خلال العيد، لكن في هذا العيد كل شيء غير، لا أماكن، لا ملابس، وكل شيء صار ذكرى بسبب إغلاق المعابر”.

مثقلٌ بالوجع

“العيد الذي كان يفرّح قلبي، بات مناسبة تختبر مدى صبري”، بهذه الكلمات يعبّر سائد حسونة عن مدى قتامة العيد في عينيه دون زوجته آمنة وبكره مهدي اللذين قتلهما جيش الاحتلال الإسرائيلي، في ليلةٍ بات فيها العيد ناقصًا وصامتًا إلا من الوجع.

وحول الفارق بين أيام العيد قبل الإبادة وبعدها، يقول حسونة: “الزمن توقف قبل العدوان، ولم يتحرك بعده”، مؤكدًا على عمق الفجوة التي تشهدها شوارع غزة التي كانت تضج بالحياة فيما تحولت قوارع طرقاتها إلى مقابر للأموات، ومكب لركام المباني والمحال المدمرة.

ويضيق صدر حسونة مع ابتسامة بغصة، وهو يستذكر محاولات ابنه مهدي، الاحتفاظ بمصروفه البسيط ليُهدي والده ساعة بلاستيكية أو دفترًا للملاحظات في كل عيد.

الشهيدة آمنة أحميد مع صغارها في الحرب

كما يصمت حسونة بإصغاء كلما زاره طيف ضحكات مهدي التي كان يعلن عبرها الانتصار على والده في سباق “كعك العيد”، بعدما يفوز على طريقته في كل مرة بالتهام الكمية الأكبر من الكعك، وهو يقول: “بابا أنت كبرت وصرت تأخذ بالك من السكر!”.

أما عن كعك آمنة، فقد تميز برائحة مختلفة، فهي “تصنعه بحب وتغمر عبره المنزل بالدفء، وتوزع معه الود كما العيدية بعدما تحرص على اجتماع العائلة على سفرة الإفطار”، في الوقت الذي لم يترك فيه مهدي ركنًا إلا ويلعب ويضحك فيه.

أمام هذا المصاب يرى حسونة “العيد بلا أحباب مجرد تاريخ على التقويم، يمر مثقلًا بالدمع، خانقًا، ويدفع المرء إلى السير بين الفراغ والذكرى”، واصفًا العيد الأول في زمن الإبادة بـ”الوداع الصامت”، حيث أصرت زوجته آمنة على التقاط صورة جماعية بعد تجهيز الكعك؛ لتُمسي هذه الصورة  بين يدي حسونة “كنزًا لا يقدر بثمن!”.

بواسطة
رانية عطا الله
المصدر
ألترا فلسطين
زر الذهاب إلى الأعلى