لا يمكن تجاوز صفعة انتشار فايروس (كوفيد- 19) داخل المجتمع الفلسطيني هكذا؛ فلسطين الوحيدة وسط أعاصير الجوائح، والطعنات، وركلات الاحتلال التي تطال خاصرتها طوال الوقت، تبدعُ دومًا بتحويل المحنة إلى فرصةٍ جديدة للحياة، وإن كان من رحم الركام.
من داخل منازلهن، حولت شاعرات وأديبات ازدحام الملل في لحظات الحجر، لوسيلةٍ تُجدد العهد مع الأدب، وتوفر وقودًا للذاكرة، واتكاءةً للثبات على سهول فلسطين وروابيها.
تقول الشاعرة خديجة أبولبدة (٢٢ عامًا) التي تقطنُ محافظة رفح جنوب قطاع غزة: “في ظل ظروف الحجر، وإعصار الحصار، وما نجم عنه من انقطاع التيار الكهربائي، وسوء شبكة الإنترنت في المنطقة التي أقطن فيها، إلا أنني لجأت لقراءة الكتب الأدبية المتنوعة”.
“لحسن حظي أن مكتبتي مليئة بكل ألوان الأدب، والعديد من الثقافات المختلفة، لأستزيد أكثر، وأمثل بشِعري جبهةً عنيدة، تواجه محتلًا أخرقًا بلا ثقافة”.
وتشير إلى أنها بدأت بقراءة الثقافة اليابانية ورواياتها، وبعض أشعار كتّابها، ثم الفرنسية، وقفزت أيضًا مع متعة القراءة، للاطلاع على الثقافة الروسية وحركة الأدب هناك، “ولحسن حظي أن مكتبتي مليئة بكل ألوان الأدب، والعديد من الثقافات المختلفة، لأستزيد أكثر، وأمثل بشِعري جبهةً عنيدة، تواجه محتلًا أخرقًا بلا ثقافة” تقول.
استعادة الذات
في حين ترى الشاعرة الغزية إيمان شبير من داخل محجرها في دير البلح وسط قطاع غزة، حيث أصيبت بفايروس كورونا، أن كل إنسان يحتاج لعزلةٍ يستطيع من خلالها إيقاظ مَلَكة الإبداع داخله، “وقد أيقنتُ أنَّ الله يُسخِّرُ لنا أيامًا نستعيدُ من خلالها أنفسنا، لتكونُ الولادة الحقيقية في محرابِ العُزلة”.
وتوضح شبير التي خطّت الشعرَ بعمرٍ مبكر، أنها كتبت قبل إصابتها بالفايروس عدة نصوص متفرقة تحت عنوان: “الحبُّ في زمن كورونا”؛ باعتبار الكتابة هي المتنفّس الوحيد للكاتب.
“بعد إصابتي بالفايروس، حاولت أن أخُطَّ يومياتي بطريقةٍ أدبية، نجحتُ في الأيام الأولى، وعجزت بعد ذلك، لقد شعرت أن المفردات ثقيلة ولا يُمكنها وصف هذه المرحلة”.
وتستدرك: “لكن وبعد بعد إصابتي بالفايروس، حاولت أن أخُطَّ يومياتي بطريقةٍ أدبية، نجحتُ في الأيام الأولى، وعجزت بعد ذلك، فحجم تأثير وثقل هذه الأيام كبيرٌ للغاية، لقد شعرت أن المفردات ثقيلة ولا يُمكنها وصف هذه المرحلة، لكنني بحمد الله تجاوزتها”.
بين الأزمات فرص
وتعتقد الروائية رنين دراغمة من مدينة طوباس شمال الضفة الغربية المحتلة، أن ظروف انتشار فايروس كورونا في فلسطين المحتلة، مختلفة تمامًا عنها في بقية العالم، “فكل أزمة بالنسبة لنا فرصة، ونحن بمثابة سفراء لفلسطين من خلال كتاباتنا الإبداعية، ومن الواجب تسخير جميع وسائل التواصل الاجتماعي، والمنصات، واللقاءات المباشرة الحية؛ لنقل المعاناة والألم الفلسطيني بشكل مُبدِع تتجلى فيه قوة وصلابة الشعب الفلسطيني”.
وتلفت دراغمة في حديثها لـ”نوى”، إلى أن الشعب الفلسطيني يواجه اليوم “كورونا” دون أدنى حد من المستلزمات الطبية اللازمة، ويواجه الاحتلال في اللحظة نفسها صبحًا وعشية، وعبر الحواجز والملاحقات الإلكترونية، “ومازلنا رغم كل ذلك نحافظ على تواجدنا في باحات المسجد الأقصى، ونبث رسائلنا وكتاباتنا المبدعة من هناك، ومن فوق كل ذرة تراب على أرض الحبيبة فلسطين”.
“فترة الحجر تمنح الكُتّاب عبر ما ينشرونه للجمهور على المنصات الإلكترونية أو يدلون به عبر قنوات البث، استعدادًا أكبر لتحشيد الطاقات المبدعة والمُلهمة”.
وزادت على قولها مفصّلةً: “فترة الحجر تمنح الكُتّاب عبر ما ينشرونه للجمهور على المنصات الإلكترونية أو يدلون به عبر قنوات البث، استعدادًا أكبر لتحشيد الطاقات المبدعة والمُلهمة، لتكون شاهدةً على أن الإبداع الفلسطيني حاضرٌ دومًا، دونما نكوص أو تراجع”.
لدى دراغمة عضوية في ملتقى الشباب العربي؛ الذي يستضيف المبدعين والموهوبين وحتى الفنانين دون استثناء، ويستقطب الجميع على مستوى العالم العربي، ناهيك عن أنها مشاركة دائمة في صالون الكتاب الفلسطينيين الأدبي، ومقره رام الله، إذ تمارس معظم أنشطتها ولقاءاتها عبره، مع زملائها من خلال الإنترنت. تقول بصوتٍ مفعمٍ بالقوة: “أحاول جاهدةً في كل ظهورٍ واتصالٍ بالعالم، أن أبث آمالنا وآلامنا وانحيازنا الكامل لمناصرة القضايا العادلة، وأبرزها قضية الأسرى الفلسطينيين، الذين يعانون بشكل دائم ومستمر وتحديدًا في ظل هذه الجائحة الخطيرة”.
الانفتاح على الآخر
في حين تشير الشاعرة الفلسطينية آلاء القطرواي، إلى أن الحجر الاحترازي في المنازل، فتح “عيون القلوب” على مساحاتٍ أبعد، وخاصة منصات التواصل الاجتماعي ومنصة “زوم”، فعلى الصعيد الشخصي، عقدت لقاءً عبر منصة “نادي الموصل” الأدبي، حيث التحم قلبها بقلوب العراقيين ومتذوقي الأدب في الساحة العربية، “كانت تجربة زاخرة ومدهشة، اختصرت علينا المسافات، وقرّبتنا حقيقةً لا مجازًا” تقول.
وتذكر أنها عقدت لقاءًا آخرًا مع موقع “لمّة” الذي يهتم بالجالية الفلسطينية في الأردن، “فجمعني اللقاء بأربعة كتاب آخرين من مختلف بقاع الوطن والشتات. كانت تجربةً فريدةً أيضًا، وأنا أستمع للهجة الضفاوية، وجمال أهلنا الذين لم نلقهم إلا عبر الصور الإلكترونية” تضيف.
وتجيب على سؤال “نوى” بشأن تواصل الطالبات معها أثناء فترة الحجر المنزلي، ومشاعرها حيال ذلك فتقول: “تتواصل معي الكثير من الطالبات، قبل فترة الحجر وبعدها، أمنحهن الدعم وأتابع كتاباتهن لأننّي في كل لحظة أرى بعيونهن آلاء، حين كانت طالبةً مدرسيّة شغوفة بالكتابة، فأجد أن من الواجب أن أُعَدّلَ لهنَّ، وأحفزهن من أجل ذواتهن ومن أجل فلسطين التي يليق بها المبدعون”.
“إنَّ الضوء لا يُولَد إلا في لحظة ألمٍ عميقة، لا تخافوا من آلامكم، اصنعوا من أرواحكم شمسًا تستطيع أن تضيء على العالمين، تستطيعون ذلك، ثقوا بالله وبأنفسكم”.
تردف آلاء: “استمعتُ للأسئلة واستمتعتُ بالإجابة عليها، وهذا الأمر يفتّق الآفاق للشاعر، ويفتح شبابيك روحه المغلقة”، مختتمةً حديثها برسالةٍ وجهتها لكل أصحاب الأرواح المبدعة فقالت: “الطريق ليست ورديّة، الشموع لم تُضأ في بدايتها للحظة رومانسية عميقة، الشموع مرادف الحزن، إنَّ الضوء لا يُولَد إلا في لحظة ألمٍ عميقة، لا تخافوا من آلامكم، اصنعوا من أرواحكم شمسًا تستطيع أن تضيء على العالمين، تستطيعون ذلك، ثقوا بالله وبأنفسكم”.
شاهد أيضا