“صحيت من النوم فرحان، اليوم عيد ميلادي، بابا أعطاني 10 شيكل، وعمو أعطاني فلوس، وماما كمان، يسلم إيديهم كتير”.
كان هذا آخر ما دوّنه الطفل الشهيد مهدي سائد حسونة في دفتر مذكّراته، قبل أن يرحل عن الدنيا ضحية مجزرة، خلّفت أكثر من 200 شهيد.
بدأ مهدي (11 عامًا) يكتب مذكراته، عندما بدأت الحرب، وكأنه كان يشعر أنه سيمرّ عبر هذه الدنيا خفيفًا، فترك خلفه ذكرى تخبر العالم بأحلام أطفال غزة البريئة، ومشاهد الفرحة التي تمثلها لعبة، وشمعة، وكعكة ميلاد.
كان مهدي يكتب عن أحلامه خلال حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، التي شنها الاحتلال قبل نحو عام. كان يحب كرة القدم، ويمارس رياضة الكونغ فو التي حصل على الحزام الأسود فيها. كان يحب الهدوء والسكينة، ويكون في أسعد حالاته عندما يساعد أمه، التي رحلت معه شهيدة.
يقول والده سائد لـ”نوى”: “هذا كل ما تبقى لي من مهدي. دفتر مذكرات، أقرأ ما فيه كل يومٍ فتأكلني الغصة. أبتسم أحيانًا عندما أشعر بنضجه بين السطور، ويبكي قلبي كلما تذكرت ضحكاته”.
ويضيف: “كان ذكيًا موهوبًا، ماهرًا بكرة القدم، بشخصية قيادية نادرة بين أشقائه. لقد تحمل قسوة الحرب عندما كان يخرج معي لتعبئة المياه، وشراء مستلزمات البيت. كان يحمل الجالونات الثقيلة دون تردد أو تذمر. كان يعرف أن هذه الحرب ستقتلنا ما لم نستطع أن نصمد”.
يحكي أبو مهدي، كيف أسعف القدر مهدي خلال الحرب أكثر من مرة، بدءًا من تعرض منزلهم في عمارة التاج هوم 3 بمدينة غزة للقصف، ونجاتهم منها بأعجوبة، مرورًا بنزوحهم للبلدة القديمة، حيث أصيبت أم مهدي (الصحافية آمنة حميد) مع ابنتها ضحى في استهدافٍ ثانٍ. يضيف: “بعدها نزحنا أكتر من 30 مرة”.
بعد اقتحام مستشفى الشفاء في آذار/ مارس 2024م، اعتقل جيش الاحتلال الإسرائيلي سائد من شمالي القطاع، ثم أفرج عنه في الجنوب، لكنه لم يكن يعلم أن الأقدار ساقته إلى هناك، كي لا يحظى بلحظة وداعٍ أخيرة.
يخبرنا: “قبل 10 دقائق من قصف البيت الذي كانت تعيش فيه آمنة وأطفالي، بتاريخ 24 نيسان/ أبريل 2024م، تلقيتُ آخر مكالمة منها، أخبرتني فيها عن الخطر الذي تشعر به، وأصوات الطائرات المرعبة. حاولت طمأنتي، لكنني كنت خائفًا جدًا عليهم”.
بعد المكالمة الهاتفية بعدة دقائق فقط، تلقى خبر استشهاد طفله مهدي وزوجته. يتابع: “كان مهدي يكتب مذكراته منذ وقت، وحكى عن ذكرياته في عيد ميلاده الأخير في الرابع من آذار/ مارس 2024م، كان يكتب المأساة بصوت الطفولة، “كي لا ينسى ما مر به يومًا وقت الرخاء ربما”.
من بين مدوّناته كتب مهدي:
“بكرا بدي أروح أعبي مية حلوة ومية مالحة، وأساعد بابا نجيب أكل الغدا”، وفي يوم آخر كتب “صحيت من النوم بدري، لبست وجهزت حالي، ورحت أجيب أغراض لماما”.
غاب مهدي ولم يعد يكتب عن حياته اليومية، راح شهيدًا بعد ذكرى لا تموت، تاركًا في قلب والده حسرة، وهو الذي كان يراه شابًا يحقق أمنياته، خريجًا جامعيًا عظيمًا تزغرد له أمه وتشاركه فرحة النجاح.
مهدي من بين آلاف الأطفال في غزة، الذين يواجهون الحرب الشرسة، ويتحملون مسؤوليات أكبر من أعمارهم، بالإضافة إلى حرمانهم من الطفولة والتعليم.
ووفقًا لوزارة الصحة الفلسطينية، فإن الاحتلال قتل أكثر من 16500 طفل وطفلة في قطاع غزة، منذ بدء الحرب في السابع من أكتوبر/ تشرين أول الماضي.