حين تُغتال الحياة في مستشفى الشفاء
لم يكن مساءً عاديًا في شهر مارس الماضي حينما قررت آلة الحرب أن تُغتال الحياة في أحد آخر معاقلها؛ مستشفى الشفاء، ذلك المكان الذي حمل على عاتقه أوجاع الجرحى والمكلومين وصار مأوىً للنازحين ممن هُدمت بيوتهم تحت وطأة القصف.
تسللت الكارثة دون سابق إنذار. في ليلة غاب فيها القصف الجوي المعتاد، وحل صمت ثقيل. كان صوت “الزنانة” وحده يخرق السكون، كأنه ينبئ بكارثة تُنسج في الظلال. فجأة، اخترقت الرصاصات النوافذ، وصاح صوت بمكبرات الصوت: “الشفاء محاصر من كل الجهات”. لم تتركنا تلك الكلمات إلا عراة أمام الموت، تائهين بين نيران مدفعية لا تفرق بين بناء أو إنسان.
النجاة من بين فكّي الموت
حملتُ “ضحى” بين يدي، متشبثةً بأمل خافت في النجاة. صرخات الأطفال ودموع الأمهات كانت تملأ الممرات المظلمة. كنا نحبو على الأرض، متعثرين بأجسادنا وبخوفنا، نحاول أن ننجو من الطلقات التي كانت كأنها تسقط من السماء. تحول مستشفى الشفاء إلى ساحة حرب، حيث لم تعد الجدران تحمينا، بل باتت عبئًا يحجب عنّا الرؤية، ويمنعنا من التسلل بعيدًا عن خط النار.
كل دقيقة كانت جحيمًا يمتد. القصف المدفعي، وأصوات التجريف، وضجيج الآليات وهي تقتلع ما تبقى من الممرات والأروقة، جعلتنا نشهد على موت المكان الذي لم يكن مجرد مشفى؛ بل كان بيتًا وملاذًا لمئات العائلات.
الشفاء… بين الدمار والرمزية
كان اقتحام مستشفى الشفاء رسالة قاسية لم تُخفِ وحشيتها. لم يكن المستشفى هدفًا عسكريًا، ولم يكن إلا مأوى للضعفاء الذين لم يتبقَّ لهم ملجأ آخر. لكن حتى هذا المكان، الذي ارتبط اسمه بالرحمة، لم يسلم من نيران الانتقام.
استهدف القصف كل شيء؛ من المعدات الطبية إلى الأدوية وحتى الطواقم التي كانت تكافح لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. سقطت رمزية الشفاء كملاذ أخير في الحرب، وباتت الذكريات التي يحملها كل من مرَّ من هناك شاهدةً على جريمة مكتملة الأركان، ارتُكبت بلا رحمة وبعيدًا عن أي إنسانية.
العيش بعد الكارثة
مع بزوغ فجر جديد، كانت الأضرار جلية. لم يتبقَ سوى الركام، وأصوات الموتى والجرحى التي خفتت تحت الأنقاض. لكن وسط هذا الدمار، كانت هناك قصص للنجاة، وحكايات لأمهات تحدَّين الموت ليحملن أطفالهن إلى بر الأمان، وآباء حفروا بأيديهم بين الأنقاض للبحث عن أحبائهم.
مستشفى الشفاء اليوم، وإن صار ركامًا، يبقى رمزًا لصمود أهل غزة الذين يعيدون بناء حياتهم من تحت الرماد. فما بين آلام الفقد ومعاناة الحصار، تبقى الإرادة الحية أقوى من أي آلة حرب.